إيطاليا..من الهامش إلى الخشبة: حين يُبدع الجيل الثاني بلغة الضحك والانتماء

عبد اللطيف الباز- هبة بريس

في بلدة ميليانيانو الإيطالية، التي قد تبدو كغيرها من البلدات الهادئة المنتشرة على أطراف الشمال الإيطالي، اهتزت جدران المسرح هناك بنبضٍ مختلف، بإيقاع لا يشبه ضجيج السياسة ولا صمت الإدماج القسري.

بل بإيقاع الضحك، لا كترفٍ مسرحي، بل كأداة مقاومة، كنافذةٍ مفتوحة على جيلٍ اختار ألا يبقى ظلًا باهتًا لآبائه، بل صوتًا مستقلًا يصرخ: ها نحن ذا!

الحدث الذي نظمته جمعية الفضاء المغربي الإيطالي للتضامن (SMIS)، لم يكن مجرد عرضٍ فكاهيّ عابر، بل لحظةً رمزية مفعمة بالمعاني، عبّر فيها أبناء الجيل الثاني من المهاجرين المغاربة بإيطاليا عن هويةٍ هجينة، لا تنتمي بالكامل لا للمغرب ولا لإيطاليا، بل لأرضٍ ثالثة: هي فضاء الانتماء المركّب، الحي، المتحوّل.

في قلب المسرح، وقف رمزي لفرندي، شاب من هذا الجيل، مسلّحًا بالسخرية، يقلب الصور النمطية رأسًا على عقب، يحكي عن طقوس البيت المغربي بلغة إيطالية سلسة، ويعرّي التناقضات اليومية التي يعيشها ما بين نكهة الكسكس وازدحام “الميترو”، ما بين سلطة الأب المهاجر وحرية الشارع الإيطالي. لم يكن عرض رمزي مجرد “ستاند أب”، بل كان نوعًا من التهجين الفني، حوارًا داخليًا على الخشبة، تجسيدًا لما يشبه “مسرح الهوية”.

يحيى مطواط، رئيس الجمعية، قالها بوضوح: “الجيل الأول يفرح بما يذكّره بالماضي، أما الجيل الثاني فبحاجة لمن يتحدث لغته، ولغتنا تغيرت.” وهذا بالفعل ما تجسده هذه المبادرة: الانتقال من استيراد الثقافة من “البلد الأم”، إلى إنتاج ثقافة محلية ذات جذور مزدوجة، ذات رأسٍ مغربي وجسدٍ إيطالي، أو العكس.

الجمهور الذي غصّت به القاعة لم يكن جمهورًا اعتياديًا. كان عبارة عن فسيفساء من الوجوه: مغاربة من الجيل الأول بجلابيبهم وحنينهم، شباب من الجيل الثاني بتيشيرتات ضاحكة ولهجات مختلطة، مسؤولون رسميون إيطاليون ومغاربة، وأصوات تبحث عن المعنى وسط الضحك. وفي هذا التنوع، تجلّى معنى الثقافة كـ مساحة تفاوض لا كـ حقيقة جاهزة.

الاحتفال لم يتوقف عند العرض، بل امتد إلى تكريم رموزٍ ثقافية من أصول مغربية صنعت فرقًا في المشهد الثقافي والفني المحلي، مثل الفنان مالكوم رافاييلّو كرياتوري، والباحثة صوفيا عبيد، وصانع الكأس العالمية أحمد أيت سيدي عبد القادر، والإعلامي والمخرج عبد المجيد الفرجي. أسماء تجسّد وجهًا آخر للهجرة: الهجرة كقوة إنتاج، لا كعبء اجتماعي.

وسط كل هذه اللحظات، بدا وكأن ميليانيانو لم تكن مجرّد نقطة على خريطة، بل مسرحًا لهويةٍ جديدة تتكوّن وتنتصر على الغموض. العرض لم يكن ترفيهًا، بل فعل وجود، إثباتًا أن أبناء المهاجرين ليسوا عالقين بين لغتين، بل قادرين على خلق لغة ثالثة، لغة ساخرة، شجاعة، ومحمّلة بالأسئلة.

وفي زمنٍ تتكاثر فيه خطابات الخوف من “الآخر”، يظهر الجيل الثاني كأجمل رد: شباب لا يطالبون بالاندماج وفق شروط أحد، بل يصنعون منصّاتهم الخاصة، يضحكون بمرارة وذكاء، ويفتحون الطريق لمن يأتي بعدهم.

ربما لم يكن الحدث الأضخم، لكنه كان صرخة ناعمة على خشبةٍ صغيرة، تقول إن الضحك حين ينطلق من الهامش، يصير فعلًا سياسيًا، وصوتًا لا يُقمع



قراءة الخبر من المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى